أهدافي لسنة 2020

كنت أرغب في ممارسة عادتي السنوية وأكتب أهدافي للسنة الجديدة.
لم يستغرق الأمر مني وقتًا طويلًا. ذهبت إلى مسودة السنة الماضية، وقمت بتعديل رقم السنة فقط.
ربما كان الجهد هذه المرة مضاعفًا عن السنة التي قبلها، لأني اضطررت لمحو رقمين حتى أعدّل ٢٠١٩ إلى ٢٠٢٠.
من حسن حظي أني لن أضطر لممارسة هذا الجهد المضاعف في السنوات التسع القادمة.

 

نص ما قبل النوم

كانت الأحلام تشفق عليه في منامه لشدة بؤسه، فتخلق له عالمًا مثاليًا. وحينًا، تتركه في العدم، فإذا ما استيقظ تنهّد حسرةً، لست مستعدًا لمواجهة يوم آخر.
كلما أخرجه صوت المنبه من عالمه، غبط الأموات لأنهم يستطيعون النوم فترة أطول.
حاول أن يقنع نفسه أن حياته الحقيقية تنتمي إلى أحلامه، والواقع كابوس يزعج نومه لا أكثر.
فصار ينفث على يساره ثلاث مرات كلما نام، بعد كابوس يومه.
صار ينام في اليوم ١٦ ساعة.
لطالما حاول أن يقلل ساعات نومه، فقد أصبح يكره النوم، ولكن مديره الذي ينتابه في كابوسه كان يمنعه ويطالبه بالعمل أكثر. تبرم مرة منه فبصق عليه.
ليس من عادته أن لا يحترم الآخرين، ولكنه لم يجد مانعًا من فعل ذلك ما دام حلمًا. لطالما رغب في الانتقام منه بهذه الطريقة ولو في أحلامه.
في اليوم الثاني، حلم بكابوس فصله من عمله.
لم يأبه بذلك كثيرًا، فقد صار يدرك وجوده في الحلم قبل أن يستيقظ منه، فينتظر لحظة استيقاظه لينتهي الكابوس كله.
كانت أحلامه غريبة، تستكمل نفسها كلما عاد إلى النوم.
ففي اليوم الثالث، حلم بأنه يمشي بحثًا عن عمل جديد .
وبينما كان يمشي، اتجهت سيارة مسرعة نحوه. فكر في أن يدعها تمضي نحوه فلربما إذا ارتطمت به استطاع أن يستيقظ من نومه، فلم يتجنبها.
وفي لحظة ارتطامها به، استيقظ بالفعل، ولكنه لم يستطع أن ينام بعدها هذه المرة.

سامي

رسالة العام 2020

كان من المفترض أن أكتب هذا النص في اليوم الأخير من العام الماضي أو في أول أيام العام الجديد، ولكني لا أظن اليوم الثالث يختلف عنهما كثيرًا.

لطالما حاولت أن أجعل من البدايات فرصة لبدايات في حياتي، ولكن الأيام تأبى إلا أن تشبه بعضها.

وكأي حالم يتفاءل بأن تحمل الأرقام الجديدة بدايات مختلفة، كتبت ما أرغب في تغييره هذا العام في نفسي، وكنت -على خلاف الأعوام الماضية- قنوعًا فلم تزد قائمتي على سطر واحد، ولكنني عدتُ إلى ما كنت عليه، ولم يتغيّر شيء.

من الجيد أن أفقد الأمل في هذا العام مبكرًا، ولا أنتظر منه شيئًا.

أظن مشاكلي كلها كانت تكمن هنا، أنني كنت أنتظر شيئًا، وكثيرًا ما يكون انتظاري اعتباطيًا، كأن أنتظر أن يحمل لي العام الجديد أحلامي المتعثرة، ثم ألقي الملامة على العام كما لو أنه وعدني بشيء.

إذا كان من شيء يمكن أن أقول أنني تعلمته، ولا يعني كوني تعلمته أنني طبقته، فهو أن نفسي هي أشد أعدائي، وأنها كثيرًا ما تتملص من مسؤوليتها بتحميلها للأقدار في صورة الانتظارات، يدفعها الوهم لتؤمن بالبدايات كمهدي يحمل الخلاص لها. هل تعرفون مهديًا خرج حتى اليوم؟

إذا كنت تنتظر من الأقدار أن تمنحك شيئًا، فهي في حال اختارت أن تكون كريمة معك وتهبك شيئًا من صنيعها لكانت الخيبات هي هديتها.

هذا العام لن يختلف عن العام الماضي، كما لم يختلف العام الماضي عن الذي قبله، ففي العام ما يتسع لأضعاف خيباتك، ولن تمتلئ يومًا خزائن أدراجها بأحلامك حتى تقرر تصريفها بمنحها لك! وستظل تردد في كل مرة تسألها هل امتلأت وتقول هل من مزيد!

ما لم تأتِ الشيء بنفسك فلن يأتيك، وما لم تستطع يدك أن تمتد إليه فاصرف عنه نظرك وقلبك. حريتك تنتهي عند محطة الانتظار الأولى!

إرادة روبي وآش

إرادة روبي وآش

تخيل أن تكون إرادة أحدهم طوع قلمك، أن تكون الشخصية التي ترسمها في مخيّلتك عنهم هي ما تتكون عليه في واقعهم، أن لا يتطلب الأمر سوى أن تكتبه ليكتسب وجوده الرسمي والذهني معًا. أن تمارس عليهم دور الرب وهم بالآلهة ملحدين.
يصوّر فيلم Ruby Sparks هذه الفانتازيا من خلال شخصية كالڤن، الكاتب الذي رأى في أحد أحلامه فتاة فاختار أن يستلهم منها شخصية روايته، لكن المفاجأة تحدث حينما يستيقظ من نومه فيجدها كما تخيلها في روايته، باسمها وشخصيتها وحتى تاريخها.
يتجاوز الصدمة، ويعود إلى آلة الكتابة ليثبت شكوكه أو ينفيها، فيكمل كتابة روايته، لتتمثل فتاته في واقعه كما تخيّلها.
كان باستطاعته أن يجعلها تتحدث الفرنسية كما فعل مرة وتأكد عندها أن آلة الكتابة هذه لا بد وأنها قد سقطت سهوًا من يد الآلهة.
حينما استاء لحاجتها إلى البعد عنه قليلًا والاختلاط بالناس نتيجة عزلته، كل ما احتاجه لتعديل سلوكها أن كتب في روايته أنها كانت تكتئب حينما لا تكون معه، فتعلّقت به حتى تمثلت طلال وهو يقول “توحشني وانت بجنبي” وبكت من فرط اشتياقها له وهي معه!
وكل ما احتاج إليه حتى يمنحها السعادة أن يكتب ذلك في روايته أيضًا.
لربما استهوتك الفكرة قليلًا، وتحركت في نفسك نزعة التملّك، وقلّبت في مخيّلة هذه الفانتازيا صورة حبيبتك لتغيّر شيئًا من إرادتها نحوك أو لتتعلق بك أكثر، أو أن تسمعك الكلمات التي تضنّ عليك بها، أو أن تمنحك ما تفكر به الآن، أيًا كان ما تفكر به الآن.
ولكنك ستواجه بعدما تشبع كل نزواتك اللحظية التساؤل الذي تردد في ذهن كالڤن، فيما لو كانت روبي فتاة حقيقية.
بالطبع كانت حقيقية عند كل أحد، وعند نفسها أيضًا. فلم يكن ينقص إنسانيتها شيء، ولكنها كانت عند كالڤن ناقصة الإرادة.
لم يعد لمشاعرها أية قيمة، ما دامت مشاعرها من صنعه.
كان باستطاعته أن يدفعها لأن تقول له “أحبك، أحب شكلك وفمك وأنفك وشعرك، أحبك يا عبقري”، ولكن ما قيمة هذه الكلمات إن لم تخرج بإرادتها؟
ما قيمة الحب إن لم يكن مدفوعًا بإرادة نجهلها، بإرادة لا نستطيع التنبؤ باستجابتها، لا نحارب في محاولة إقناعها أو كسبها؟
يختلف الإنسان عن الإنسان بالإرادة، فإن لم تكن ثمة سوى إرادة واحدة، فليس ثمة سوى إنسان واحد، وإن تعددت الأجساد.
وما يحدد الموجودات الحية عن غيرها هو اكتساب هذه الإرادة، بدونها لا يعدو الإنسان أن يكون آلة مُبرمجة.

ينقلني ذلك إلى آشن في مسلسل Black Mirror وتحديدًا في حلقة Be Right Back.
نحن هنا مع جسد آخر مسلوب الإرادة ولكن بصورة مختلفة، فحينما تفقد مارثا حبيبها آش، تسمع عن خدمة تبقي صلتها مع الموتى، عن طريق استخدام ماضي الميت على شبكاته الاجتماعية وتحليل كل منشوراته وتعليقاته وإعجاباته. ومن خلال تحليل الذكاء الاصطناعي لأسلوب حديثه، يحاكي البرنامج آش فتتحدث معه مارثا كما كانت تتحدث معه وهو على قيد الحياة.
تتحسن نفسيتها بادئ الأمر على الرغم من علمها أن الإرادة التي تتوهمها هي إرادة مصطنعة من تاريخ آش، ويتطور الأمر فتشتري ‘روبوت’ بتفاصيل جسده لتعيش معه حد ممارسة الجنس!
وهنا تقارن مارثا بينهما.
كانت الإرادة هي العلامة الفارقة بين الجسدين، وكل التفاصيل التي افتقدتها مارثا في جسد آش المبرمج تعود إلى نفس الإرادة التي تفتقدها وتفتقد الإحساس بها، فلم تكن إرادته سوى نتيجة لوغاريتمية محتمة، تفقد بها الإرادة مفهومها العشوائي الذي يحتمل المفاجأة والتقلب والدهشة ولا يخضع لمعطيات ومعادلة محددة!

 

انقطاعات الباث

 

انقطاعات الباث

ونحن نحتضر في الأيام الأخيرة من الباث، تذكرت رواية ساراماغو البديعة انقطاعات الموت، حينما استعار الموت من الفانتازيا ليجيب عن تساؤلين: كيف ستكون الحياة لو انقطع الموت عنا؟ وهل سيكون من الأفضل لو عرفنا متى سنموت؟

الجزء الثاني هو ما استعادته ذاكرتي عند إعلان الباث إغلاقه بعد شهر، ليقضي بوفاتنا جميعًا في هذا العالم. لكن الحالتين ليستا متشابهتين تمامًا، ففي انقطاعات الموت، لم يكن الموت مقضيًا على الجميع في الوقت نفسه كما هو الحال في موت الباث. الموت في الباث أشبه بالقيامة، حيث تنقطع الحياة عن كل الموجودات دفعة واحدة، لا أحد يبقى، كل العالم سيفنى كما لو لم يكن، في حين كان الموت يتخطف الأفراد في عالم ساراماغو.

تساءلت وأنا أقارن بين الصورتين: هل كان الحزن الذي ينتاب الإنسان في عالم ساراماغو حينما يعلم بوفاته قبلها، لأنه سيغادر الوجود، أم لأنه وحده من سيغادر الوجود؟ لربما كانت فكرة القيامة أو فكرة الموت الباثي حيث يرحل الجميع معه إلى منفى العدم أهون عليه من أن يُنفى وحده عن عالمه في حين يستمر الآخرون فيه.

في اعتقادي أن ما يحدد هوية الوجود عندنا هو بقاء الآخرين لا بقاؤنا. وقد لا يستسيغ الإنسان فكرة الوجود في ظل رحيل الآخرين كما لا يستسيغ فكرة الرحيل في ظل بقائهم. الموت هو انفصالنا عن الآخرين. وقد يبلغ بالإنسان بعد رحيل الذين كانوا يشكلون العالم والوجود بالنسبة له حدًا يشعر معه أنه الميت وأن الذين رحلوا عنه ينعمون بالحياة في عالمهم الآخر، فيتمنى الرحيل معهم إلى عالمهم.

 

أيّنا أكثر حظًا: نحن أم آدم؟

 

أيّنا أكثر حظًا: نحن أم آدم؟

يرى عالم النفس والفيلسوف الألماني الأمريكي إيريك فروم في الحب الوسيلة لقهر الانفصال الذي يلازم الإنسان بعد انفصاله عن أمه ووعيه التدريجي بانفصاليته، باعتبار الحب الحل الكامل لهذه المشكلة التي يطلق عليها مشكلة الوجود الإنساني.

وينطلق من هذه المشكلة للحديث عن تجربة “الوقوع في الحب”، الانهيار الفجائي للحدود بين اثنين، حيث يصبح الغريب معروفًا للآخر بشكل حميمي، يذوب معه شعور الانفصال لدى الإنسان، فيشعر بنوع من الاتحاد مع الآخر، يقوى على قدر المفاجآت التي يكشفها له الآخر أو يكشفها هو للآخر.

يمكن أن ندعو هذه المرحلة مجازًا بـ”جنة الحب”. ولا عجب أن نسمع إذن عن فترة الخطوبة في الزواجات التقليدية على وجه الخصوص أنها أجمل فترات الارتباط. وقلت أننا يمكن أن ندعو هذه المرحلة بـ”جنة الحب” مجازًا، لأن أبرز خصائص الجنة هو الخلود، بينما المرحلة هذه بطبيعتها قصيرة العمر. فحتى لو استطعنا أن نجد في كل يوم جانبًا من حياتنا الشخصية للحديث عنه، آمالنا وقلقنا، بل وحتى غضبنا وإحباطنا، فإنها ستميل -كما يقول فروم- إلى النقصان أكثر بمرور الزمن.

وهنا تبدأ المشكلة، حينما نتوهم المشكلة في الشخص نفسه، دون اعتبار طبيعة العلاقات نفسها، ثم نبحث نتيجة لهذا عن الحب مع شخص آخر، أو مع غريب جديد كما يقول فروم، لتتكرر العملية نفسها، مع الوهم نفسه الذي سيصحبنا في كل مرة أن الحب الجديد سيكون مختلفًا عن كل السالفين، قبل أن يبدده الزمن مرة عاشرة. وما كانت هذه الأطوار لتشكل مشكلة حقيقية لو كان الوعي بها حاضرًا.

قلت مرة لأحد أصدقائي في ساعة إحباط: لا تقع في حب فتاة تنوي الزواج بها إلا حينما تكون مستعدًا للزواج، حتى لا تطول الأيام بينكما فيفتر الحب في قلبها ثم تفقد الرغبة المتقدة الأولى بك، فإنك إن لم تظفر بها في “جنة الحب” فلن تضمن الظفر بها عند الخروج منها.

وبعيدًا عن المغالطة في نصيحتي حينما وجهت له النصيحة بأن لا يقع في الحب كما لو كان الوقوع في الحب شيئًا نختاره، بل كما لو أن الإنسان “يقع” بوعيه، فإني تساءلت فيما لو كان بالفعل خيرًا لنا أن نهبط من تلك الجنة قبل أن يجرّد الزمن مشاعر الحب الأولى. إذا ما سلّمنا بأن ذلك الهبوط قدر محتم كقدر أبينا آدم.

في اعتقادي أنه خيرٌ لنا أن نعيش حياة الرتابة بعد الهبوط من جنة الحب، على أن ندخلها بوهم صورة لن تستمر أبدًا. لقد كنا أكثر حظا من أبينا آدم حينما وُهبنا الحياة بعد الهبوط من الجنة، فعرفناها أول ما عرفناها ببؤسها وفنائها ولم نعشها بوهم النعيم والخلود.

غير أن ما سبق يمكن أن يبعث لنا رسالة أخرى، وهي أن لا نتمسك بأؤلئك الذين يحبوننا على نحو أكثر قدر تمسكنا بالذين يستطيعون أن يحبوننا على نحو أطول.
من السهل جدًا أن نعثر على من يمكن أن يحملوا لنا مشاعر حب عظيمة للحظة، ولكن من الصعب جدًا أن نعثر على من يستطيعون أن يحملوا لنا هذه المشاعر دائمًا، أولئك الذين رفضوا أن يغويهم الشيطان فلم يخرجوا من الجنة.

 

اخرجي في موعد مع رجل يحبّ الكتابة

اخرجي في موعد مع رجل يحبّ الكتابة

الكاتب: مجهول الهوية
ترجمة: سامي البطاطي

 

اخرجي في موعد مع رجل يحب الكتابة. اخرجي في موعد مع رجل يحفظ سبعين كلمة في وصف عينك وحدها، ولا يعجزه أن يجد كلمة للتعبير عن أدق مشاعره نحوك، وإن لم يجد فسيخلق من أجلك معجمًا آخر يسعك.

اخرجي في موعد مع رجل سيزاحم طاولة تسريحتك بكتبه. ستغضبين منه، ليعتذر إليك، ثم تتفاجئي في الصباح التالي بالكتب وقد عادت لمزاحمتك على طاولتك مجددًا. حسنًا، يجب أن تعتادي على ذلك.

لا تغاري عليه حينما يعود إلى المنزل في كل مرة مصطحبًا كتبه معه، ولا تتخذي منها ضرائر لك، ستكونين بالنسبة له دائمًا كتابه الأجمل.

اخرجي في موعد مع رجل لن تخشي معه من أن لا يفهمك، فقد قرأ “كبرياء وتحامل” و”جين إير” و”مدام بوفاري” و”آنا كارنينا” و”ذهب مع الريح” و”المعلم ومارجريتا” و”الحب في زمن الكوليرا” و”شيطنات الطفلة الخبيثة”. سيفهمك بكل حاجاتك بل وحتى نزواتك. سيقرؤك وإن لم تنطقي بما في نفسك. وسيكتب بالحياة معك روايته الأولى التي سيجمع في حبكتها كل جنون الأعمال التي قرأها.

سيتعلم “لغات الحب الخمس”، ويتمرن على “فن الحب”، ويدرس “النساء من الزهرة”، ثم يسرد لك خمسين تعريفًا قرأها للحب، قبل أن يطبع على شفتيك تعريفه هو للحب.

لا تخشي من أن ينصرف عنك إلى كتبه، فسوف يؤدبه كافكا حينما يقرأ له أن “الكتاب لا يستطيع أن يعوض العالم، وأن لكل شيء في الحياة معناه ووظيفته التي لا يمكن أن تُشغل بالكامل من قبل شيء آخر”. ولكني أود منك أن تحتفظي بأوراقه ورسائله حينما يصل إلى كافكا، خشية أن يتأثر بوصيته في حرق أعماله كلها.

وبما أننا جئنا على ذكر حرق الكتب، سأهمس لك بسر ولا تسألي عن السبب: توجهي إلى مكتبته، وإن وجدتِ فيها عملًا لشوبنهاور فأحرقيه.

اخرجي في موعد مع رجل لن تقلقك رتابة الحياة معه، لأنه سيحمل إليك في كل ليلة قصة يحكيها أو قصيدة يحفظها أو فكرة يناقشها معك. سيسافر بك من روسيا إلى برلين، إلى باريس، إلى لندن، إلى مدريد، إلى القارة اللاتينية، إلى أمريكا الشمالية، إلى الماضي، إلى المستقبل، إلى الممكن وإلى المستحيل.

قد لا تعجبك كل نكاته، كأغلب نكات المثقفين، ولكنك إن لم تضحكي للدعابة التي تحملها، فستضحكين للسخف الذي تحمله، وهذا هو المهم، أن تضحكي.

قد تجدينه يومًا وقد أطبق الحزن على وجهه كما لو أن عزيزًا عليه قد رحل، ثم تكتشفي أن الذي رحل هو بطل قضى الروائي بقتله في آخر القصة. لا تقلقي، فالأمر طبيعي.

في الحقيقة، سيكون من الجيد لو تجاوزتِ عن كثير من التصرفات التي قد تبدو غريبة عليك لأول مرة. قد تجدينه مثلًا يتأمل في سرتك. ومرة أخرى لا تقلقي، فغالب الظن أنه انتهى لتوّه من “حفلة التفاهة”. تستطيعين أن تلعني كونديرا.

ولا تستريبي منه حينما يمتدح رائحة جسدك حتى وإن لم تتعطري، متأثرًا بـ”غرينوي”. الأهم أن لا يبلغ تأثره حد الرغبة في قتلك كما فعل.

هذا الجنون الذي قد يبدو عليه أحيانًا هو ما سيجعل حياتك معه مختلفة تحسدك عليها النساء، وسيخلع عنها رداء الرتابة. سيحمل لك التاريخ والرجال بكل تناقضاتهم، فمرة يكون حالمًا كيخوتيًا وأخرى سوداويًا كافكويًا.

اخرجي في موعد مع رجل علمته القراءة كيف ينصت إليك، وعلمته الكتابة كيف يتحدث إليك.

ولا تظني من لحن القول أن يدعوك لمشاركته القراءة وهو يستمع إلى معزوفة لبيتهوفن أو يصطحبك إلى صالات السينما. فالقراءة عنده هي قراءة الجمال، حتى ذلك الذي يسكن عينيك.

اخرجي في موعد مع رجل لن يكون متحجّرًا، فقد قرأ في كل فكرة ونقيضها، واستفزته الكتب جيدًا. سيستمع إليك لأنه تعود في الكتب أن يستمع من الأحياء والأموات وحتى من الذين يختلف معهم، لأنه يؤمن بأن كل فكرة قد تحمل جزءًا من الحقيقة وإن خفي، وسيبحث عنها عندك كما يبحث عنها بين صفحات الكتب.

اخرجي في موعد مع رجل لن يقلقك بفراغه ولن يستأثر باهتماماتك ووقتك، ففي حضورك ستكونين كتابه الأول، وعند رغبتك في الانصراف إلى اهتماماتك وحدك، سيعود إلى كتبه.

اخرجي في موعد مع رجل لن تبذلي جهدًا في الهدية التي ستختارينها له في يوم ميلاده أو في ذكرى زواجكما، فكتاب واحد سيكفيه، ولكن فتشي في مكتبته أولًا حتى لا تصبح فيها من هديتك نسختان.

اخرجي في موعد مع رجل يستطيع أن يخلدك برسائله إلى جانب أناييس وفييرا وإلزا وميلينا، سيرسمك بالحرف، وإن لم يملك ريشة فان جوخ أو دافنشي.

اخرجي في موعد مع رجل سيحبك أكثر كلما كبرتِ، لأنه يؤمن بأن أرواح النصوص -يا نصه الأعظم- خالدة، ولا تزيدها الأيام إلا قداسة.

اخرجي في موعد مع رجل يستطيع أن يقول لك “أحبك” بمئة طريقة مختلفة.

رسالة العشاء الأخير

رسالة العشاء الأخير

في البدء كانت الرسالة، كانت التذكرة والهجرة إلى الوطن، كان عرق الكتاب الذي يجمعنا. وكان اللقاء الأول، أقلب نظري بين الوجوه التي لم أكن أعرفها، بدأت أحفظ أسماء بعض وأنسى آخرين.

لقد كانت اليوتوبيا مدينة طوباوية نائمة في العدم فأيقظناها وأخرجناها إلى الوجود. مدينة يحكمها العارفون، ويسكنها العارفون.

من يبعث يوشع بن نون فيوقف لنا الشمس واللحظة؟!

لقد أدركت في هذا الملتقى أننا لا نحتاج إلى أن نتفق في المذاهب ولا في العقائد ولا في الأفكار ولا في البلدان والأعراق حتى نجتمع ويحب بعضنا بعضا. كنا متباينين وكان الحب يجمعنا. أدركت أن الوعي والمعرفة هي ما نحتاجه.

كانت الأيام تشد في كل يوم وثاقاً جديداً يربطنا ببعضنا أكثر، فلما أحكمت الأيام الوثاق واشتدت الصلة، جاءت لتسخر منا بالوداع.

كانت فكرة الوداع الآتية من المستقبل تطرق بابي كل يوم لتفسد علي لحظتي، وكنت في كل مرة أتجاهلها، أريد الاستمتاع بكل لحظة حاضرة، وكان العدم يحسدنا، يزداد كل يوم طرقاً، وكنت أتجاهل صوته، فيزداد طرقاً، ثم كانت اللحظة وكان أن دخل الوداع. لم يعد بعد اليوم عدماً، اليوم هو لحظة حاضرة.

اليوم ننفى من أوطاننا لنصبح أشتاتا متفرقة تعيش التيه، وليس لها حق العودة.

سأفتقد جلسات البهو المسائية، سأعيش مساءات الغد محمّلا بالذكرى وحدها. ستغدو هذه الأيام الجميلة لحظات ماضية، ندخل إليها بـ”كان” و”كان” و”كان”.

لما رأيت القوم قد رحلوا

وراهب الدير بالناقوس مشتغل

 

شبكت عشري على رأسي وقلت له

يا راهب الدير هل مرت بك الإبل

 

فحن لي وبكى بل رق لي ورثى

وقال لي: يا فتى ضاقت بك الحيل

 

إن الخيام التي قد جئت تطلبهم

بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا

كانت أثقل ساعات يومي هي ساعات النوم التي تفصلني عن الحياة. إنني أخشى إن وقفنا على باب الجنة يوم القيامة، أن يؤخر الله دخولنا إليها عدد أيام الملتقى لأننا اقتطعنا من نعيمها في الدنيا.

لكل الذين أخطأنا في حقهم فتجاهلنا أو تعالينا عن الاعتذار إليهم، نعتذر.

لكل الذين أحببناهم، فعقد الحياء ألسنتنا فلم نصارحهم، نحبكم.

إن من بين الوجوه التي ترونها اليوم، من ستحمل هذه الساعات المتبقية آخر العهد بهم، من الوجوه التي بيننا اليوم من سيشهد هذا المكان آخر مكان جمعنا بهم. سنغدو ذكرى تفسد كل لحظة جميلة ستمر بنا وتقول: قد كان من أيامك ولحظاتك أجمل من هذه.

الذكرى التي عرضتها على اللغات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها قلبي.

ليلة العشاء الأخير، التي ستشهد صلب أرواحنا، سينوح الحمام ويبكي الشعر والغناء.

 

بكيت وهل بكاء القلب يجدي

فراق أحبتي وحنين وجدي

 

فما معنى الحياة إذا افترقنا

وهل يجدي النحيب فلست أدري

 

فلا التذكار يرحمني فأنسى

ولا الأشواق تتركني لنومي

 

سامي البطاطي

٢٩/٨/٢٠١٧

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑